شرح قصيدة صيحة البعث للزبيري؟

شرح قصيدة صيحة البعث للزبيري، هو ما نسعى الى التكلم عنه اليوم بشكل مختلف وعميق من اجل الوصول إلى أكثر استفادة لزوار موقعنا الكرام.

 

شرح قصيدة صيحة البعث للزبيري:

صيحة البعث

مطلع هذه القصيدة :

كفكف الدمع واعتصم بالعزاء
ليس في الحرب فرصة للبكاء
قد تصديت للجهاد فلا تأبه
لنبل يأتيك في الهيجاء
انت للامة التي علقت فيك
عظيم المنى، كبير الرجاء
اودعت في يراعك الغض ماقد افرغته من ادمع ودماء
حملت قلبك الجراح التي تصرخ
في البائسين والضعفاء
ارسلت فيك صوتها الثائر الغضبان
ضد الحكومة الهوجاء
انت للظلم غصة يبتلى الظالم
منها في كل يوم بداء

يهندس الزبيري قصيدة الحزن وفق تصور معين فهو يبدأ من عتمة البكاء لينقلك وبشكل خاطف صوب تحولات الحزن الى براكين تفتت عتمة اليأس وتصنع للحياة فجراً جديداً، وهو هنا يفتح حواراً مع الذات المصغية داخل النص واقصد المناضل نعمان والذات المصغية خارج النص وهم جمهور المتلقين ليصحح قناعاتهم ازاء الحزن ويعري النسق السياسي القائم آنذاك منتقلاً برشاقة من مناخات الرثاء المتخمة باليأس والمرارة الى فضاءات مترعة بعنفوان الانعتاق وهو يعي تماماً طاقة الحزن الجبارة في الثورة على قيود الشتات، لذلك تجده في قصيدة (صيحة البعث ص 116) المتشذرة طباعياً الى ثلاث شذرات يكثف هذا المعنى، تأمل مثلاً الشذرة الثانية:

سجل مكانك في التاريخ يا قلم
فها هنا تبعث الاجيال والامم
هنا البراكين هبت من مضاجعها
تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهم
شعب تفلت من اغلال قاهره
فاجفل عنه الظلم والظلم
نبأ عن السجن ثم ارتد يهدمه
كي لا تكبل بعده قدم
ان القيود التي كانت على قدمي
صارت سهاماً من السجان تنتقم
ان الانين الذي كنا نردده
سراً غدا صيحة تصغي لها الامم
و الحق يبدأ في اهات مكتئب
وينتهي بزئير ملؤه النقم

مما لاشك فيه ان هندسة قصيدة الحزن تقوم على تقنية استدراج افق التلقي الى دهاليز الحزن ثم خطفه وبشكل صادم صوب وهج الانفلات من عتمة اليأس ليكون المتن برمته خطاباً تنويرياً يدين الاستسلام لقيود العتمة اضف الى ذلك ان التفاوت الصوتي الحاد بين (الأنين والصيحة) وبين (الاهات والزئير) يضيء فلسفة الحزن لدى الزبيري التي تبارك الحزن القادر على اضرام شعلة الانعتاق لاسيما انه اعتمد على جماعة المتكلمين (كنا+نردده) في هذه التحولات لانها الاقدر على تحقيق الفعل الثوري المنشود.
وقد يصوغ الزبيري قصيدة الحزن من منطلق احساسه بالمسؤولية ازاء اليمن انساناً وارضاً، تأمل الآتي: (ص 126)
علت بروحي هموم الشعب وارتفعت
بها الى فوق ماقد كنت ابغيه
وخولتني الملايين التي قتلت
حق القصاص على الجلاد امضيه
عندي لشر طغاة الارض محكمة
شعري بها شر قاض في تقاضيه
تتمظهر جمالية المتن في هذا الانتقال من الخطاب الجماعي في القصيدة السابقة الى استبطان الذات الثائرة واحساساتها ازاء مايحصل على الارض من وأد جسدي ونفسي للآخر المستلب (الشعب)، فالمخيال الشعري يبدأ بعتمة مدلهمة تجتاح الذات المتكلمة لتكون موجاً عارماً بل طوفاناً يغرق الذات بمواجعه (علت بروحي هموم الشعب وارتفعت بها الى فوق ماقد كنت ابغيه) ليستدعي في الغاطس الايحائي وجه امرئ القيس ونبراته الراعفة المنبعثة من عمق الذاكرة الشعرية:
وليل كموج البحر ارخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
واذا كان امرئ القيس قد احال ليل الحزن الى موج عارم استسلم لطوفانه فان الزبيري وان جعل من الحزن طوفاناً يبعثر الأمكنة واناسيها فقد صيره اكسيراً للحياة ودافعاً لمقارعة رموز العتمة والاستلاب ليعلن عن ميلاد الفجر من قلب العتمة ولتكون القصيدة لافتة سياسية أو خطاباً تنويرياً وتعبوياً جماهيرياً يصوغ من الحزن فينيقاً جديداً للثورة ينفض عن كاهله غبار القهر ويحلق في سماء الخلاص، قارن الآتي:
سأنبش الاه من تحت الثرى حمماً
قد انضجته قروناً من تلظيه
واجمع الدمع طوفاناً ازيل به
حكم الشرور من الدنيا وانفيه
احارب الظلم مهما كان طابعه
البراق كيفما كانت اساميه
تضيء الانزياحات- المتمظهرة في صيرورة الاه (حمماً) تحرق الأمكنة المتمترسة بالاستلاب والدمع طوفاناً يعصف برموز الظلم- دينامية الحزن عند الزبيري الذي ينطلق من قلب اللحظة الراعفة صوب الآتي المكلل بالانعتاق والضوء، زد على ذلك ان حشد الافعال المضارعة (سأنبش+ اجمع+ احارب) اضاء حركة عبور الزمن النصي من عتمة المنصرم والآني صوب الآتي، انك تلمح عن كثب تقشر وجه الحزن عن بهجة مضمرة يوقدها الضمير الحي الذي اطلق في البيت الثالث صرخته ضد غياهب القهر، وقد تشحذ قصيدة الحزن الذاكرة الشعرية العربية فنلمح على مرايا النص وجه ابي الطيب المتنبي كما في قصيدة (في سبيل فلسطين ص 21) أو قد تستدعي وجه ابي العلاء المعري من عمق الذاكرة الشعرية كما في قصيدة شكوى (ص 143) التي يقول فيها:
ظلم الزمان وجارت الدنيا وقيدني الابد
كيف المصير وكل شيء في الحياة بلارشد
الارض ترجف بالمخاوف، والكواكب ترتعد
والشمس تنتظر المصارع في يد الله الصمد
وحماقة الانسان تحفل بالحياة وتستعد
والحاكم الطاغي يجور على البلاد ويستبد
(هذا ماجناه أبي علي وماجنيت على احد)
يارب فاجعل هذه الدنيا بنارك تتقد
لو شئت تطلب من يطيعك من بنيها لن تجد
ولرب جبار يغشك بالصلاة ويجتهد
ويقول: عبدك وهو دونك قد عبد
واذا رأى من يعبدونك ثار منه لك الحسد
نسب الجحود الى الأفاضل وهو اول من جحد
تبكي دماء الابرياء براحتيه اذا سجد
يكرس المخيال الشعري ادواته لكشف الحقيقة المزدوجة للنسق السياسي المتأله والمتمترس بالطقس الديني لتكريس الاذلال والمحق. لتكون القصيدة برمتها خطاباً دينياً تنويرياً يدين الاستسلام للآخر الطاغية ومرايا صقيلة تعكس بشاعة اللحظة الراجفة. فصوت ابي العلاء المعري المغلف بالاغتراب (هذا ماجناه ابي علي وما جنيت على احد) قد شكل اضاءة توقد في ذاكرة التأويل مكابدات الذات المقفصة بعتمة المكان والجسد لترسم صورة تراجيكوميدية للاستبداد وتناقضاته. ان الزبيري في هذه القصيدة يطلق السحرية من قلب الالم كما يطلق شراسة المواجهة من قلب الآه واللوعة.
وقد يشكل المخيال الشعري هندسة دائرية لقصيدة الحزن يتضافر فيها المفتتح مع الخاتمة، تأمل مثلاً قصيدة (الى وطني ص 6):
الشاعرية في روائع سحرها
انت الذي سويتها وصنعتها
بدمي وانت بمهجتي اودعتها
مالي بها جهد، فانت سكبتها
ونشرتها بين الورى واذعتها
انت الذي بشذاك قد عطرتها
وقفت لساني في هواك غناءها
فاذا تغنت في سواك قطعتها
يتمت روحي في علاك، وصغتها
بسناك، ثم طردتها وفجعتها
ابعدتني عن امة انا صوتـــها العالي، فلو ضيعتني ضيعتها
حملتني آلامها ودموعها
ومنعتني عن وصلها، ومنعتها
ناديت أشتات الجراح بأمتي
فجمعتها في أضلعي وطبعتها
ماقال قومي: آه الا جئتني
فكويت احشائي بها ولسعتها
عذبتني وصهرتني، ليقـول عنك الناس هذي آية ابدعتها
تنشطر القصيدة ايحائياً الى نسقين احدهما شديد البياض، وناصع البهجة والعنفوان وهو يتمركز في الاستهلالة حتى البيت الثالث اذ انك تلمح انخطاف المتن صوب النسق الثاني الملبد بالعتمة والوجع وهو نسق يتم الدخول اليه من بوابة الشعر التي لم تكن الا بوابة للألم واللوعةSadوقفت لساني في هواك غناءها/ فاذا تغنت في سواك قطعتها) هو ينتقل بك من فراديس البوح الى محنة الكتابة ورؤيته ازاء الكلمة ودورها الفاعل على تحرير الشعوب، هو في هذا البيت يعلن عن حالة من الوجد الصوفي الا انه يخطف محرابه من تمجيد المطلق الى تمجيد اليمن (المقدس) وهو مايسوغ انتقاء المخيال الشعري هذه القصيدة لتكون فاتحة القصائد، فهي صلاة صوفية في محراب الوطن (المعشوق المقدس) وعذابات لاتنتهي تصل الى ذروتها في صرخته المجلجلة Sad ناديت اشتات الجراح بامتي/ فجمعتها في اضلعي وطبعتها/ ماقال قومي: آه الا جئتني/ فكويت احشائي بها ولسعتها) لنكون قبالة بوح راعف يعكس ملامح الزبيري الذي ينجح في ان يجعل من عتمة الحزن وجهاً آخر لفجر الخلاص، اضف الى ذلك ان هذه الخاتمة تتحرك دلالياً صوب استهلالة القصيدة لتجعل افق التلقي يعيد كرة القراءة بينهما لنشهد عياناً التحاماً دلالياً بين المفتتح والخاتمة تجعل من المتن حلقة مفرغة مايلبث القارئ ان يفهم مغزاها المتمظهر في تمجيد الصلة بالمكان الرامز للهوية والانتماء.
وخلاصة القول، فان الزبيري في مجموعته ( صلاة في الجحيم) قد جعل من قصيدة الحزن الجمرة التي ينفخ جذوتها فتغدو حمماً تحرق القهر وترمد الطغيان على اختلاف اشكاله. أو لم يقل:
وللفؤاد احاسيس اذا نبضت
جاشت بها الارض وانجابت بها الظلم
فالزبيري الثائر والمصلح الاجتماعي يعي مساحة الحزن الشاسعة والمهيمنة على فضاء الذات المكبلة بالحرمان والتهميش لذا فانه يبدأ من هذه الاحساسات المريرة لينفض عنها غبار الاستسلام ويحولها الى دفقة من العنفوان والاداء الثوري، والزبيري ينوع من مناخاته الشعرية ليوصل هذه الفكرة الى قلب المتلقي فتارة يصوغ متناً شعرياً وتارة قصيدة ممسرحة كما في (العجوز وعسكري الامام ص90) التي يتحاور فيها جابي الامام المتمرس بالغلظة والشراسة والسلاح وامرأة عجوز فقيرة، وتكمن اللمسة الفنية في تكثيف الفضاء الدرامي واختيار الزبيري لهاتين الكينونتين فاما الاولى فقد فضحت ادوات الطغيان وبلادة احساساتها واضاءت الانثى الهرمة العزلاء الا من الحاجة والجوع غياب القدرة على المنازلة، ليمرر من خلال هذه التشكيلات خطابه السياسي والثقافي والايديولوجي الذي يدين الاستسلام الى عتمة الحزن وانكساراته. اضف الى ذلك ان قصيدة الحزن قد امتلكت بعداً تطهيرياً معاصراً اذ لم يتوقف المخيال الشعري عند دور التطهير في تدفق الدموع لغسل النفس من أدرانها وانما جعل للتطهير بعداً جديداً حين جعله مسوغاً من مسوغات التغيير والنهوض الاجتماعي والجماهيري.

 

ارجو ان نكون قد وضحنا كافة المعلومات والبيانات بخصوص شرح قصيدة صيحة البعث للزبيري، ولكن في حالة كان لديكم تعليق او اقتراح بخصوص المعلومات المذكورة بالأعلى يمكنكم اضافة تعليق وسوف نسعى جاهدين للرد عليكم.