شرح قصيدة غاب بولونيا لاحمد شوقي؟

شرح قصيدة غاب بولونيا لاحمد شوقي؟

شرح قصيدة غاب بولونيا لاحمد شوقي، هو ما نسعى الى التكلم عنه اليوم بشكل مختلف وعميق من اجل الوصول إلى أكثر استفادة لزوار موقعنا الكرام.

 

شرح قصيدة غاب بولونيا لاحمد شوقي:

في بعثته العلمية إلى فرنسا، التي جاءت بناء على رغبة من عزيز مصر الخديو توفيق باشا – كما سماه أحمد شوقي في مقدمته للشوقيات – قضى شوقي أربع سنوات في دراسة الحقوق، على أن يقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريس. يقول شوقي عن قصة هذه البعثة: «ثم لم يحل عليّ حول في الخدمة الشريفة – بالخاصة الخديوية – حتى رأى لي الخديو أن أبلغ التأديب في أوربا، فخيرني في ذلك، وفيما أريده من العلوم. فاخترت الحقوق لعلمي أنها تكاد تكون من الأدب، وأن لا قدم فيها لمن لا لسان له.

فأشار الأمير عليّ عندئذ أن أجمع في الدراسة بينها وبين الآداب الفرنساوية بقدر الإمكان. ثم سافرت على نفقته فكنت أُنْقَد ستة عشر جنيها في الشهر، نصفها من المعية ونصفها من الخاصة.

وأعطاني يوم سفري مائة جنيه، أرسل نصفها إلى مدير الإرسالية ليهيئ لي جميع ما أحتاج إليه حال وصولي، ودفع إليّ النصف بيده الشريفة. وما أنس من مكارمه – رحمة الله عليه – لا أنس قوله لي في ساعة الوداع: «لا حاجة بك منذ اليوم إلى أهلك فلا تُعنتهم بطلب النقود واعنت أباك هذا الغنيّ». فركبت البحر لأول مرة أؤم مرسيليا، فلما قدمتها وجدت مدير الإرسالية في انتظاري بها. فأخبرني أنّ الأمير يأمر بأن أقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريز. وكان المدير قادمًا من مونبلييه للقائي فعاد بي إليها على الفور، وهنالك قدّم لي جميع ما أحتاج إليه، وأدخلني في مدرسة الحقوق الجامعة، ثم رجع إلى العاصمة».

غير أن ديوان شوقي – الشوقيات – لا يقدم لنا من أثر هذه السنوات الأربع في شعره، إلا ثلاث قصائد ومقطوعة من أربعة أبيات. وترتبط القصائد والمقطوعة ارتباطًا وثيقًا بباريس، وليس فيها التفات – من قريب أو بعيد – إلى مدينة مونبلييه وعامين عاشهما شوقي فيها، فقد استأثرت باريس بالاهتمام الأوحد، وهو أمر مفهوم وطبيعي. سواء كان هذا الاهتمام مصاحبًا لإقامة شوقي فيها كما حدث بالنسبة لقصيدة «باريس» ذاتها أو قصيدته «على قبر نابليون» أو مقطوعته عن «ميدان الكونكورد»، أما قصيدته الثالثة «غاب بولونيا» فقد أبدعها قرب ختام حياته في زيارة إلى فرنسا بصحبة ولديه عندما أخذهما ليتعلما هناك كما تعلم، والقصيدة التفاتة إلى الماضي، وحديث عن شوقي الذي ارتبط في مجال زهو الشباب وافتنانه ونشاطه العاطفي بغابات بولونيا التي يقصدها العشاق والمحبون.

يقول شوقي:يا غاب بولونٍ ولي ذمم عليك ولي عهودٌ
زمنٌ تقضّى للهوى ولنا بظلّك، هل يعودُ
حلمٌ أريد رجوعه ورجوع أحلامي بعيدُ
وهبِ الزمانَ أعادها هل للشبيبة من يعيدُ
يا غاب بولونٍ وبي وجدٌ مع الذكرى يزيدُ
خفقت لرؤيتك الضلوعُ وزُلزل القلبُ العميدُ
وأراك أقسى ما عهدت فما تميل ولا تميدُ
كم يا جماد قساوةً كم هكذا أبدًا جحودُ
هلا ذكرْت زمان كُنّا والزمان كما نريدُ
نطوي إليك دجى الليالي والدجى عنا يذودُ
فنقول عندك ما نقول وليس غيرك من يعيدُ
نُطقي هوى وصبابةٌ وحديثها وترٌ وعودُ
نسري ونسرحُ في فضائك والرياحُ به هجودُ
والطير أقعدها الكرى والناسُ نامت والوجودُ
فنبيت في الإيناس يغبطنا به النجم الوحيدُ
في كلّ ركن وقفةٌ وبكل زاوية قعودُ
نَسْقي ونُسْقى والهوى ما بين أعْيننا وليدُ
فمن القلوب تمائمٌ ومن الجنوب له مهودُ
والغصن يسجد في الفضاءِ وحبّذا منه السجودُ
والنجمُ يلحظنا بعينٍ ما تحولُ ولا تحيدُ
حتى إذا دعت النوى فتبدّد الشملُ النضيدُ
بتْْنا وممّا بيننا بحرٌ، ودون البحر بيدُ
ليلى بمصر وليلُها بالغرب وهو بها سعيدُ

هذه الالتفاتة إلى الماضي، بعد انقضاء زمن طويل على شباب شوقي في باريس، هي التي فرضت عليها هذا الطابع الشجيّ الأسيان، وهذا الالتفات في ذكريات اتسع لها صبا العمر وفورته ونشاطه. لكنه – وهو يبدع قصيدته – في زيارة أخيرة إلى باريس وعودة إلى مواطن الذكريات الأولى يأسى ليد النّوى أي الفراق، وتبدّد الشمل النّضيد، أو العقد الذي كانت حبّاته تنتظم هذا العمر الجميل والزمن الناضر.

ويستوقف شوقي إبّان إقامته في باريس ميدان «الكونكورد» ومعناه «الوفاق»، (وهو الذي أُعدم فيه الملك لويس السادس عشر في أيام الثورة الفرنساوية) فيقول أبياته الأربعة:

أميدانَ الوفاقِ وكنت تُدْعى بميدانِ العداوِة والشقاقِ
أتدري أَيَّ ذنبٍ أنت جانٍ وأيّ دمٍ ذهبت به مُراقِ
هوى فيك السريرُ ومن عليه ومات الثائرون وأنت باقِ
أصابوا واستراح «لويسُ» منهم لذا، سُمّيتَ ميدان الوفاق

وشوقي، شأنه شأن أي مصري، يرى في نابليون جزءًا من تاريخه المصري في مطلع العصر الحديث، عندما جاء غازيًا يحمل اسم «الجنرال بونابرت»، قائدًا لحملة فرنسا على الشرق، قبل أن تضطره تطورات الأمور – في مصر وفرنسا – إلى الهرب من مصر، وترك مقاليدها لخليفته «كليبر» الذي يقتل بدوره على يد سليمان الحلبي الطالب الأزهري، ويتولى من بعده «مينو» الذي كان إيذانًا بانتهاء الحملة الفرنسية على مصر.

يتوقف شوقي أمام قبر نابليون مستعرضًا تاريخه الحافل، وانتصاراته الباهرة، وأحلامه ومطامحه في ملك فرنسا وغيرها من دول أوربا، انتهاءً بانكساره في معركة «واترلو» ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانه، والقضاء على الأسطورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

يقول شوقي:

قف على كنزٍ بباريسَ دفينْ من مزيدٍ في المعالي وثمين
وافتقد جوهرةً من شرفٍ صدف الدهرُ بترْبيها ضنينْ
قد توارت في الثرى، حتى إذا قدُم العهد توارت في السنينْ
غُرّبت حتى إذا ما استيأستْ دنت الدارُ ولكن لات حينْ
لم تُذبْ نارُ الوغى يا قوتها وأذابتْه بتاريخُ الحنينْ
لا تلوموها، أليست حرةً وهوى الأوطان للأحرار دينْ

ثم يقول بعد عدة مقاطع:يا عصاميا حوى المجد سوى فضلةٍ قد قُسّمت في المعْرقينْ
أمك النفسُ قديمًا أُكرمت وأبوك الفضلْ خير المنجبينْ
نسبُ البدرِ أو الشمس – إذا جيء بالآباء – مغمورٌ رهينْ
لا يقولن امرؤٌ أصلي، فما أصله مسكٌ وأصلُ الناس طينْ
قد تتوّجت، فقالت أممٌ: ولدُ الثورةِ عقّ الثائرينْ
وتزوّجت، فقالوا: ماله ولحورٍ من بناتِ المُلْك عينْ
قسمًا لو قدروا ما احتشموا لا يعفُّ الناسُ إلا عاجزينْ!

ثم يقول شوقي قرب ختام قصيدته الطويلة:

قم إلى الأهرام واخشعْ واطرحْ خيْلة الصّيد وزهوَ الفاتحينْ
وتمهّل إنما تمشي إلى حرم الدهرِ ومحرابِ القرونْ
وتسنم منبرًا من حجرٍ لم يكن قَبْلك حظَّ الخاطبينْ
وادْعُ أجيالاً تولّت يسمعوا لك، وابعث في الأوالي حاشرينْ
وأعدْها كلمات أربعًا قد أحاطت بالقرونِ الأربعين

(يقصد بالكلمات الأربع العبارة المشهورة، التي قالها وهو في سفح الأهرام مشجعًا جنوده: «أيها الجنود: إن أربعين قرنًا من الزمان تُطلْ عليكم).

ألهبت خيْلاً، وحضّت فيْلقًا وأحالت عسلاً صاب المنونْ
قد عرضْتَ الدهر والجيش معًا غاية قصّر عنها الفاتحونْ
ما علمنا قائدًا في موطنٍ صفحَ الدهر وصفَّ الدارعينْ
فترى الأحياءَ في مُعتركٍ وترى الموتى عليهم مشرفينْ
عظةٌ قومي بها أَوْلى، وإن بعُد العهدُ، فهل يعتبرونْ
هذه الأهرامُ تاريخهمو كيف من تاريخهم لا يستحونْ!

ولا يترك شوقي الفرصة قبل أن يستخلص العبرة ويوحي بالمغزى، وهو المولع دومًا بالتاريخ يرى فيه هو والطبيعة جناحيْ الشاعر اللذين دونهما لا يستطيع التحليق. إذن ليختم قصيدته أمام قبر نابليون بحكمة الدهر وعظة الزمان:

يا كثير الصّيْدِ للصَّيدِ العُلا قم تأمل كيف صادتك المنونْ
قمْ تَرَ الدنيا كما غادرْتها منزل الغدر وماء الخادعينْ
وتَر الحقّ عزيزًا في القنا هيّنا في العُزّل المستضعفينْ
وترَ الأمر يدًا فوق يدٍ وتَر الناس ذئابًا وضيئينْ
وتر العزّ لسيفٍ نزقٍ في بناء المُلْكِ أو رأي رزينْ
سُننٌ كانت، ونظمٌ لم تزلْ وفسادٌ فوق باع المضحكينْ!

في قصيدته «باريس» يبلغ شوقي قمة تألّقه في تصوير باريس صورة مستقرة في وجدانه، وهي التي يصفها بأنها جمال العصر وجلاله، بل: العصرُ أنتَ جمالُه جلاله، هل بعد هذا كلامٌ يقال إنها – كما يتردد في قصيدته البديعة – مكتبه قبل الشباب وملعبه، ومقيل أيام الشباب في زمن الطيش والحمق والنزوات، وهي مراح لذاته ومغداها، وسماء وحي الشعر. وشوقي ينعطف إلى باريس بعد أن فرّقت بينهما الأيام، ورآها معرّضة لعدوان المعتدي وغزْو الغازي إبّان الاجتياح في أتون الحرب العالمية الأولى.

يقول شوقي:

جهد الصبابة ما أكابدُ منكِ لو كان ما ذقتُهُ يكفيكِ
حتّام هجراني وفيم تجنّبي وإلام بي ذلُّ الهوى يُغريكِ
قد متُ من ظمأٍ فلو سامحتني أن أشتهي ماء الحياة بفيكِ
يا بنت مخضوب الصوارم والقنا بَرِئت بنانُكِ من سلاح أبيكِ
فخضابُ تلك من العيون وقايةٌ وخَضابُ ذاك من الدم المسفوكِ
جفناك أيهما الجريءُ على دمي بأبي هما من قاتلٍ وشريكِ
بالسيفِ والسحرِ المبينِ وبالطِّلا حملا عليّ وبالقنا المشبوكِ
بهما وبي سقمٌ، ومن عجبِ الهوى عدوانٌ منكسرٍ على منهوكِ
رفقًا بمُسبلةِ الشّئون قريحةٍ تسلو عن الدنيا ولا تسلوكِ
أبكْيتها وقعدْتِ من إنسانها يا للرّجال لمُغرقٍ متروكِ
ضلّت كراها في غياهب حالكٍ ضلّ الصباحَ عليه صوتُ الديكِ
رقّ النسيم على دجاه لأنّتي ورثا لحالي في السماءِ أخوكِ
قاسيْتُه حتى انجلى بالصبح عن سرّى المصونِ ومدمعي المهتوكِ
سُلّت سيوفُ الحيّ إلا واحدًا إفرندهُ في جفْنِهِ يحميكِ
جرّدْته في غير حقٍّ كالأُلى سلّوا سيوفهمو على أهليكِ
طلعت على حرم الممالك خيلُهم نارًا سنابكُها على «البلجيكِ»
اليأسُ والجبروتُ في أعرافها والموتُ حول شكيمها المعلوكِ
عرّت «لياجَ» عن الحصون وجرّدتْ «نامور» عن فولاذها المشكوكِ
تمشي على خطّ الملوك وخَتْمهم وعلى مصون مواثقٍ وصكوكِ
والحرب لا عقل لها فتسومُها ما ينبغي من خُطةٍ وسلوكِ
دكت حصون القوم إلا معقلاَ من نخوةٍ وحميةٍ وفُتوكِ
وإذا احتمى الأقوامُ باستقلالهم لاذوا بركنٍ ليس بالمدكوكِ
ولقد أقول وأدمعي مُنهلّةُ «باريز» لم يعرفْكِ من يغزوكِ
ما خِلْتُ جنات النعيم ولا الدُّمى تُرْمَى بمشهود النهار سَفُوكِ
زعموكِ دار خلاعةٍ ومجانةٍ ودعارةٍ يا إفْك ما زعموكِ
إن كنتِ للشهوات ريًّا فالعلا شهواتهنّ مُروّياتٌ فيكِ
تلدين أعلام البيان كأنهم أصحاب تيجانٍ ملوكُ أريكِ
فاضت على الأجيال حكمةُ شعرهم وتفجّرت كالكوثر المعروكِ
والعلم في شرق البلاد وغرْبها ما حجّ طالبهُ سوى ناديكِ
العصرُ أنت جمالُه وجلالَه والركنُ من بُنْيانه المسْموكِ
أخذت لواء الحقّ عنك شعوبُه ومشتْ حضارتهُ بنور بنيكِ
وخزانةُ التاريخ ساعة عرْضها للفخر، خيرُ كنوزها ماضيكِ
ومن العجائب أنّ واديكِ الشّرى ومراتع الغزلان في واديكِ
يا مكتبي قبل الشباب، وملعبي ومقيل أيام الشبابِ النّوكِ
ومَراحَ لذاتي ومغداها على أُفقٍ كجنّاتِ النعيم ضحكوكِ
وسماء وحي الشعر من متدفقٍ سلسٍ على نوْل السماءِ مَحُوكِ
لما احتملْتُ لكِ الصّنيعة لم أجدْ غير القوافي ما بِه أجزيكِ
إنْ لم يقوكِ بكلِّ نفسٍ حرةٍ فالّله جلَّ جلالُهُ واقيكِ

ولقد وفّى شوقي بديْن باريس عليه شابًا ويافعًا، وردّ لها الجميل مضاعفًا بشعره الباقي على الزمن، وحنينه المشبوب الذي يحمله شعره وينقله إلى قارئه، فإذا بقُرّائه يُصبحون بعْض عشاق باريس، وطلابِ فتنتها وفنّها وثقافتها الحية المتجدّدة.

 

ارجو ان نكون قد وضحنا كافة المعلومات والبيانات بخصوص شرح قصيدة غاب بولونيا لاحمد شوقي، ولكن في حالة كان لديكم تعليق او اقتراح بخصوص المعلومات المذكورة بالأعلى يمكنكم اضافة تعليق وسوف نسعى جاهدين للرد عليكم.

 

 
 

One Comment

Comments are closed.